من مينيابوليس إلى جنيف.. كيف تحوّلت مأساة جورج فلويد إلى دعوة للعدالة؟
من مينيابوليس إلى جنيف.. كيف تحوّلت مأساة جورج فلويد إلى دعوة للعدالة؟
شهدت السنوات الأخيرة تحولات غير مسبوقة في الخطاب الدولي حول العدالة العرقية، إذ لعب المدافعون عن حقوق الإنسان دوراً محورياً في تحويل قضايا التمييز المنهجي والعنف المرتبط بالشرطة إلى محور أساسي على أجندة الأمم المتحدة، وتبرز دراسة الحالة الجديدة التي أعدتها أكاديمية الخدمة الدولية لحقوق الإنسان كيف تمكّن المجتمع المدني من كسر الحواجز التقليدية بين المحلي والعالمي، عبر حشد جهود متناسقة للضغط على مجلس حقوق الإنسان وهيئات الأمم المتحدة الأخرى، ما أسفر عن قرارات وآليات جديدة تعزز المساءلة الدولية.
البداية كانت مأساوية، مع مقتل جورج فلويد في 25 مايو 2020 في مينيابوليس الأمريكية، وهي الحادثة التي أشعلت احتجاجات واسعة ضد عنف الشرطة والعنصرية المنهجية في الولايات المتحدة وخارجها، لم تقتصر تداعياتها على الشوارع الأمريكية، بل امتدت إلى أروقة جنيف ونيويورك، حيث تحركت منظمات المجتمع المدني مثل الخدمة الدولية لحقوق الإنسان (ISHR) والاتحاد الأمريكي للحريات المدنية (ACLU) وشبكة حقوق الإنسان (HRCnet)، لبناء تحالف دولي يضمن إدراج العدالة العرقية ضمن أولويات الأمم المتحدة، وأدت هذه الجهود إلى ما عرف بـ"قرار جورج فلويد" الذي فتح الباب أمام إنشاء آلية مبتكرة.
معالجة التمييز العنصري
أهمية هذه الآلية تكمن في كونها الأولى من نوعها التي تركز بشكل مباشر على معالجة التمييز العنصري وعنف الشرطة من منظور دولي وقانوني ملزم أخلاقياً، وهو ما شكل نقلة نوعية في تعامل الأمم المتحدة مع قضايا العنصرية، فقد اعتادت المنظمة الأممية على إصدار بيانات أو تقارير عامة، لكن إنشاء آلية خبراء يوفّر أدوات ملموسة للرصد والتحقيق والتوصية بالسياسات، الأمر الذي يعزز المساءلة ويضيق مساحة الإفلات من العقاب.
تاريخياً، طالما شكّلت قضايا التمييز العرقي جزءاً من أجندة الأمم المتحدة منذ إقرار الاتفاقية الدولية للقضاء على جميع أشكال التمييز العنصري عام 1965، إلا أن التطبيق العملي لهذه المعايير ظل محدوداً، خاصة في مواجهة قوى كبرى متهمة بانتهاكات متكررة. وقد أظهرت التحركات الأخيرة أن الضغط المنسق من المجتمع المدني يمكن أن يكسر الجمود السياسي ويجبر حتى الدول الأكثر نفوذاً على مواجهة سجلها الحقوقي.
ردود متعددة المستويات
ردود الأفعال داخل الأمم المتحدة جاءت متعددة المستويات، فقد استجابت الإجراءات الخاصة وهيئات المعاهدات عبر إصدار تقارير وتوصيات تناولت بشكل مباشر مسألة العدالة العرقية، كما شهد مجلس حقوق الإنسان مناقشات عاجلة حول العنصرية الممنهجة، كما وفّر المنتدى الدائم للأشخاص ذوي الأصول الإفريقية منصة جديدة لتسليط الضوء على تجارب هذه الفئات، في حين دعمت الآليات الإقليمية مثل اللجنة الإفريقية لحقوق الإنسان والشعوب دعوات المجتمع المدني نحو إصلاحات منهجية وتعويضات.
لكن التحول الأهم تمثل في إضفاء الطابع المؤسسي على هذه الجهود، عبر إنشاء تحالف الأمم المتحدة لمناهضة العنصرية (UNARC)، هذا التحالف مكّن المنظمات الحقوقية والمدافعين من صياغة أجندة متكاملة لمساءلة الدول وتعزيز العدالة العرقية، وجعل أصوات المنحدرين من أصول إفريقية مسموعة داخل النظام الأممي. وبحسب تقارير حقوقية، فإن هذه الجهود أدت إلى ارتفاع غير مسبوق في عدد المداولات الأممية التي تتناول عنف الشرطة بشكل مباشر، وإلى تعزيز الضغوط على الحكومات لتقديم بيانات شفافة حول تعاملها مع هذه القضايا.
استجابة لمعاناة الملايين
من الناحية الإنسانية، تعكس هذه الإنجازات استجابة ملموسة لمعاناة ملايين الأفراد من التمييز والعنف على أساس عرقي أو إثني، فوفقاً لتقارير الأمم المتحدة، يتعرض أشخاص من أصول إفريقية بشكل غير متناسب للتوقيف والاعتقال واستخدام القوة المفرطة من قبل الشرطة في عدة دول، ومنها: الولايات المتحدة، البرازيل، وفرنسا، وتشير إحصاءات إلى أن الأمريكيين من أصول إفريقية أكثر عرضة بخمس مرات للقتل على يد الشرطة مقارنةً بالبيض، هذه الأرقام تسلط الضوء على الطابع الممنهج للمشكلة، ما يجعل معالجتها مسؤولية جماعية وليست محلية فقط.
على المستوى الدولي، أسهمت الضغوط الحقوقية بدفع نقاشات أوسع حول التعويضات التاريخية المرتبطة بالاستعمار والعبودية، وهي قضايا كانت مهمشة لفترة طويلة، إذ دعت هيئات دولية ولجان مستقلة إلى الاعتراف بالمسؤوليات التاريخية وتبني سياسات لإصلاح الأضرار، وهو تحول يعكس مدى اتساع نطاق العدالة العرقية في الأجندة الأممية.
غير أن هذه الإنجازات لم تخلُ من تحديات، فقد واجه المدافعون عن حقوق الإنسان محاولات تقييد من بعض الدول التي رأت في هذه الجهود تهديداً لصورتها الدولية أو تدخلاً في شؤونها الداخلية، ومع ذلك، فإن النجاحات التي تحققت حتى الآن تعكس قدرة المجتمع المدني على تجاوز العقبات من خلال التنسيق والتحالفات العابرة للحدود.
إن التجربة التي أبرزتها دراسة الحالة تؤكد أن المدافعين عن حقوق الإنسان ليسوا مجرد مراقبين أو أصوات احتجاج، بل فاعلون رئيسيون في صياغة سياسات أممية تعزز المساواة والعدالة، فقد أثبتوا أن قضايا العدالة العرقية يمكن أن تتحول من أحداث محلية مأساوية إلى آليات دولية راسخة، وأن أصوات المجتمعات المهمشة قادرة على إحداث تغييرات ملموسة حين تجد صدى في مؤسسات بحجم الأمم المتحدة.
يمكن القول إن إسهام المدافعين عن حقوق الإنسان في تعزيز العدالة العرقية داخل الأمم المتحدة تمثل نموذجاً لكيفية تحويل النضال الحقوقي إلى إصلاح مؤسسي عالمي، وبينما لا تزال التحديات قائمة، فإن المسار الذي بدأ منذ مقتل جورج فلويد يشكل نقطة تحول فارقة في التاريخ الحقوقي المعاصر، إذ جعل من قضية المساواة العرقية قضية عالمية بامتياز، ورسّخ دور المجتمع المدني بوصفه قوة دافعة لا غنى عنها في بناء عالم أكثر عدلاً وإنصافاً.